ألوهية المسيح
لم يكن يخطر على بال أحد، أن الله هو بنفسه سيتّخذ جسداً ليظهر به في العالم الذي خلقه، دون أن يستنكف من هذا التنازل، فيكلّم الإنسان الذي جَبَلَهُ، مُجالساً إياه كإنسان مثله. أمّا الإنسان، ومن جرّاء غريزته الشرّيرة والمتكبّرة، فهو يرفض احياناً الإيمان بأن الإله العليّ يتواضع إلى مستوى خليقته البشرية.
ماذا يقول الوحي الكتابي – القرآني عن التجسد الإلهي؟
إننا نجد التوراة تهيّىء المؤمن إلى قبول التجسّد الإلهي على مرحلتين: في مرحلة أولى، أوحت التوراة حقيقة وجود الله الواحد الأحد. ثمّ في مرحلة ثانية أوحى الله النبوءات عن السيد المسيح، مقدّماً إياه بصفات ومميّزات خارقة.
كان الناس، قبل التوراة، يعبدون آلهة دكتاتورية، يُستعبدون لها بخوف. ففي مرحلة أولى، قدّمت التوراة الإله الواحد، الحنون، الرحمن، الرحيم، غافر المستغفرين، ظهر يخاطب إبراهيم ويحاوره، ولموسى وللأنبياء ويكلّمهم عن المحبة، حين كان عابدو الأوثان يرتجفون خوفاً من آلهتهم وينسحقون أمامها لإظهار خضوعهم التّام لها.
أما الله، فقد علّمنا في التوراة أن نحبّه كأب يسهر على أطفاله المؤمنين، لا أن نرتعب منه إلا إذا كنّا من الظالمين: ".. الربّ إلهٌ رحيمٌ، حنونٌ، بطيءُ الغضب، وكثير المراحم والوفاء.." (خروج 34: 5-7). ويؤكّد القرآن على ذلك في آياته المنيرة، مقدّماً المولى عزّ وجلّ على أنّه] الرحمان الرحيم [.
في المرحلة الثانية، وَعَدَ الله بإرسال المسيح، رحمة منه على الناس، ليَنتشِلَهم من جحيم الأنانية والغطرسة والجهل. أوحى الله إلى الأنبياء أن هذا المسيح سيكون متواضعاً، لكنه مع ذلك عظيماً، ونَسَبَ الله إليه أسماء رمزية تُشير إلى جوهره الحقيقي وهويّته الفريدة. فقال عنه النبي أشعيا (القرن الثامن ق.م.): السيد الرب نفسه يعطيكم هذه الآية: "ها إنّ العذراء ستحبل وتلد ابناً اسمه عمانوئيل" (أشعيا 14: 7) نجد تفسير هذا الإسم في إنجيل متّى: "الله معنا" (متّى 23: 1). وهكذا، فالله هو نفسه معنا في المسيح وقال أشعيا أيضاً إن "اسمه مشير عجيب، إله جبّار، أبو الأبد، أمير السلام" (أشعيا 6: 9).
الاسمان "إله جبّار" و"أبو الأبد" لم يخصّهما الله بنبيّ ما، ولا يتجرّأ إنسان عاقل على حملهما. بل وبالعكس نجد أسماء مثل "عبد الله"، "عبد المسيح" و"عبد النبي". فكأن الله يقول في التوراة، من خلال هذه الأسماء الإلهية المعطاة للمسيح، إنه سيأتي هو بنفسه في جسد المسيح.
تظهر ضرورة التجسّد الإلهيّ لخلاص الإنسان في صرخة النبي أشعيا مُستنجِداً بالله، وطالباً ظهوره تعالى شخصيّاً على الأرض: "..آه، ليتك تشقّ السماوات وتنزل.." (أشعيا 63: 19).
هناك نبوءة أخرى في التوراة للنبي "ميخا"، وهو معاصر للنبي أشعيا، تنبّأ فيها بمولد المسيح في بيت لحم ثمانية قرون قبل ميلاده، ثم استطرد قائلاً: إن "مخارجه" أو "أصله" منذ الأزل. فيقول الله بفم ميخا: "أنتِ يا بيت لحم (بمنطقة) إفراتة، انك أصغر بلدان يهوذا، ولكن منك سيخرج لي الذي سيملك على إسرائيل، ومخارجه منذ القدم، منذ أيام الأزل" (ميخا 2: 5). فكيف يأتي المسيح في المستقبل وتكون أيامه منذ الأزل؟
لقد فُهِمت تلك النبوءة لمّا تمّت، فأكّد الإنجيل – الذي جاء 750 سنة بعد ميخا – على نبوءته، إذ قال المسيح في جدل حادّ مع اليهود: "قبل أن يكون إبراهيم، أنا كائن" (يوحنا 58:
. ومعروف أن إبراهيم سبق المسيح على أرضنا بألفي سنة. فكيف كان المسيح في الوجود من قبله؟
تَظهر أزلية المسيح – التي تنبّأ بها ميخا – من كلام المسيح نفسه: "أنا قد مجّدتك (يا الله) على الأرض.. فالآن مجّدني أنت، يا أبتِ، عندك بالمجد الذي كان لي عندك من قبل خلق العالم" (يوحنا 4: 17-5). يعلن المسيح في هذه الآية عن وجوده "قبل خلق العالم"، أي عن ألوهيته. إن المسيح هنا يتكلّم في حضرة تلاميذه وبصوت عال، ليُعلّمهم بأي روح يجب مخاطبة الله: بلطفٍ وحنان، وليكشف طبيعته الإلهية للمستمعين إليه، فهو "كائن قبل خلق العالم". وفي الوحي الإنجيلي آيات عديدة تكشف عن أزلية روح المسيح، لا جسده بالطبع الذي خُلِقَ فوُلِدَ كسائر الناس.
يستغرب البعض من أمر التجسد الإلهي، ويتساءلون أسئلة بذهنيّة مادية، تحدُّ من قدرة الله. فسمعنا من تساءل: "لو تجسّد الله بالمسيح على الأرض، كيف كان يُدير العالم والفلك من السماء؟".
إنه لسؤال طفولي غريب! فكأن على الله أن يترك السماء لينتقل الى الأرض! سبحانه القدير على كل شيء، يُدير الكون أينما كان وبمجرّد إرادته وبكلمة منه تعالى. إننا نستطيع في عصرنا هذا، أكثر من أي عصر مضى، فهم التجسّد الإلهي بعد أن كشف علم النفس عن طاقات الروح المجهولة. فالإنسان الروحاني يستطيع أن يرحل بروحه بعيداً عن جسمه آلافاً من الكيلومترات، بل وأن يظهر بالروح لأشخاص في بلدان بعيدة عن جسده وأن يسيطر على تفكير بعض الناس، وأن يرشد أفراداً وجماعات بعيدة عن جسده. فإن كانت تلك قدرة روح الإنسان المخلوق، الذي لم يكتشف كلّ طاقاته الروحية بعد، فما بالكم بروح الله القدوس القادر على الخوارق والمستحيلات؟! فالله بوسعه أن يتجسّد على الأرض دون أن يترك السّماء.
لكن ما يهمّنا في أمر الوحي، ليس ما يقول عنه بعض دعاة الإيمان به، بل ما أوحى الله هو بنفسه لأنبيائه عن مخططه، وإن كان في ذلك شكّ لبعض ذوي الإيمان الرخيص، الذين يتمسّكون بتفكيرهم الضيّق، رافضين الانفتاح على ما يريدنا الله أن نفهم.
ماذا يقول القرآن الكريم عن المسيح؟
يقول إنه كلمة الله وروحه: ] إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشّرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم [(آل عمران 45). لاحظوا أن اسم الكلمة الإلهية هو "المسيح عيسى"، أي أن المسيح هو "كلمة الله". وكلمة الله لا تنفصل عن الله، فهي مثله ومعه منذ الأزل، كما أوحى الله في الإنجيل: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، والكلمة كان الله.. والكلمة صار جسداً" (يوحنا 1: 1-14).
يقول القرآن إن المسيح هو أيضاً روح الله: ] إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه [(النساء 171). فكما أننا لا نستطيع فصل الكلمة عن صاحبها، كذلك أيضاً لا يمكننا فصل روحه عنه فكلمة الله هي الله، وروح الله هي أيضاً الله، وهو الثالوث الإلهي الواحد في الجوهر، الوارد ذكره في الوحي الإنجيلي.
يجادل البعض في ذلك بحجج خسيسة، كقولهم إن هناك رؤساء دينييّن يحملون لقب "روح الله" دون الانتماء إلى جوهر الله. جوابنا هو أن التقاليد البشرية هي التي نسبت ألقاباً كهذه للبشر وأن الوحي الإلهي منها برّاء. إن الكتب السماوية لم تقل عن أي نبي، مهما عظمت مكانته عند الله، إنه كلمة الله أو روح منه تعالى. هنا أيضاً يظهر شكل من أشكال انحراف التقاليد عن الوحي.
إن الله تعالى استعمل أحسن الأساليب مع العرب ليكشف لهم حقيقة جوهر المسيح تدريجيّاً، بموجب خطّه التربويّ الحكيم. من يريد معرفة مزيدٍ من الحقائق التي أوحاها الله، فعليه أن يلجأ إلى الكتاب، وأن يقرأه، ولكن أن يفعل ذلك مستنجداً بروح الله، وألاّ يقرأ بروح محض بشرية أو فلسفيّة تحجب الحقائق الروحية عن العقل. فالمهم ليس مطالعة كتب الوحي، وإنما الروح التي بها نقرأ تلك الكتب السماوية.
إن كان القرآن لا ينفي لاهوت المسيح، فكيف يمكننا تفسير الآية الكريمة التالية منه: ] لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح: يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربّي وربّكم إنه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنّة [(المائدة 72).
الجواب: لاحظ أن الآية لا تقول: "لقد كفر كل من قال إن الله هو المسيح"، بل] الذين قالوا إن الله هو المسيح [، وهم المسيحيون أو النصارى(*)، المعروفون بمعشر الذين يقولون إن الله هو المسيح.
ولكن لماذا كفروا؟ ألأنهم قالوا إن الله هو المسيح؟
لو كان هذا هو المقصود، لنزلت الآية واضحة لا جدل فيها: لقد كفر كلّ من قال إن الله هو المسيح. إلاّ أن القرآن لا يعتبر كلّ المسيحيين كفاراً، ويقول بالعكس حسنات كثيرة عن النصارى، علماً بأنهم يقولون إن الله هو المسيح.
-] ولتجدنّ أقربهم مودّة للذين آمنوا (بالقرآن) الذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون [(المائدة 82).
-] إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين، من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون [(البقرة 62).
- ] الذين أتيناهم الكتاب من قبله هم به (بالقرآن) يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا: آمنّا به إنه الحق من ربّنا، إنّا كنّا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرّتين بما صبروا ويدرؤون بالحسنة السيئة وممّا رزقناهم ينفقون وإذا سمعوا اللغو (الشتم) أعرضوا عنه [(القصص 52-55).
نستنتج من هذه الآيات الشريفة أن القرآن لا يحكم على معشر "الذين يقولون إن الله هو المسيح" لقولهم هذا، وإلاّ لقضى عليهم جميعاً. إنما يقصد الوحي تلك الفئة المسيحية التي كفرت من جرّاء أعمالها الشريرة، لكنه يثني على المؤمنين الصالحين منهم] ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون] و[ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون [(البقرة 62 والمائدة82).
إن القرآن يميّز بين فئتين مسيحيّتين، فئة منها صالحة وأخرى طالحة وهي المنعوتة بالكفر:
-] ليسوا سواءاً من أهل الكتاب أمّةٌ قائِمةٌ يتلونَ آيات الله ءَانآءَ اللّيل وهم يَسجدون يُؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف ويَنهونَ عن المُنكر ويُسارعون في الخيرات وأولئك مِنَ الصالحين وما يفعلوا من خيرٍ فلن يُكفَروهُ والله عَليمٌ بالمُتّقين [(آل عمران 113-115).
-] ومِن أهل الكتاب مَن إن تأمنه بقنطار يؤّده إليك، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤدّه إليك إلاّ ما دمت عليه قائماً [(آل عمران 75).
-] ودّت طائفة من أهل الكتاب لو يضلّونكم وما يضلّون إلا أنفسهم وما يشعرون [(آل عمران 69).
يجب ملاحظة تمييز الوحي القرآني بين فئتين من أهل الكتاب. فالطائفة الضالة هي الكافرة، لا لأجل إيمانها بأن الله هو المسيح، بل من جرّاء أعمالهم وسرقتهم أموال الناس. فالقرآن الذي يثني على الرهبان والقسيسين في آياته الكريمة، يفضح رهباناً آخرين بقوله:
]إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل [(التوبة 34).
إن أكل أموال الناس هي عبادة أوثان. ولقد علّمنا الوحي أن كل عمل كافر وكل فحشاء هي بمثابة عبادة أوثان، وبالتالي فهي إشراك بالله. فيقول الوحي الإنجيلي:
"اعلموا هذا جيداً: إنه ليس للزاني، ولا للنجس، ولا للطّماع – وكلّهم عابدو أوثان - ميراث في ملكوت الله والمسيح" (افسس 5: 5).
وقال السيد المسيح أيضاً في هذا المضمار: "لا يستطيع أحد أن يخدم سيّدين، لا تستطيعون أن تخدموا الله والمال" (متّى 24: 6). ومع ذلك فإننا نجد أفواجاً من الذين يدّعون الانتماء إلى المسيح، هم في الحقيقة عبدة أوثان، قد أشركوا آلهة المال والملذّات بالله.
فلا عجب أن يفضح القرآن، بعد الإنجيل، تلك الفئة الكافرة من معشرالمسيحيّين الذين يقولون إن الله هو المسيح. هؤلاء النصارى منعوتون بالكفر لإشراكهم حبّ المال والملذّات بالله، لا لقولهم إنّ الله هو المسيح. هذا هو تفسيرنا.
وإننا نصدّق على الوحي القرآني: نعم، لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح؛ ونحن ممّن يقولها مطمئنّين آملين ألاّ نكون كفاراً بأعمالنا. ولكننا، للمزيد من التوضيح، نقول اليوم أيضاً: "لقد كفر الذين قالوا إن محمداً هو رسول الله"، ونحن نؤمن أن محمداً هو رسول الله، ونأمل أن لا نكون كفاراً بابتعادنا عن مبادئ القرآن ووصاياه الشريفة، وروحه السموحة الطيبة، التي ابتعد عنها الكثير الكثير ممّن يقولون إن محمداً رسول الله. كما أننا نقول أيضاً: "لقد كفر الذين قالوا إن موسى نبي الله"، ونحن نؤمن بموسى نبيّاً، ونكفر بالصهاينة الذين يقولون إن موسى نبي الله.
إن التجسّد الإلهي أمر كان لا بدّ منه بسبب الظلمات الحالكة التي غرق فيها الإنسان، فضلّ ضلالاً مبيناً، يعجز عن إنقاذه منه الأنبياء أنفسهم. ويظهر هذا العجز من كلام النبي أشعيا القائل: "كلّنا ضللنا" (أشعيا 6: 53) – الله وحده لا يضلّ السبيل، وهو وحده قادر على تحرير الإنسان من الضلال. فلذلك "صار الكلمة جسداً وسكن بيننا" (يوحنا 14: 1).
لقد استجاب المولى العزيز لصرخة النبي أشعيا: "آه، ليتك تشقّ السماوات وتنزل".
--------------------------------------------------------------------------------
(*) يميز البعض بين النصارى والمسيحيين. هذا التمييز غير وارد إطلاقاً في القرآن الكريم، ويدل على
جهل مروّجي هذا التمييز. فكلمة "النصارى" مشتقة من "الناصرة"، بلدة المسيح، وتعني أتباع
المسيح" الناصري" وهي ترادف كلمة "المسيحيون".